يجب على القارئ الإخلاص ومراعاة الأدب مع القرآن ، فينبغي أن يستحضر نفسه أنه يناجي الله تعالى ويقرأ على حال من يرى الله تعالى فإنه إن لم يكن يراه فإن الله تعالى يراه .
وينبغي إذا أراد القراءة أن ينظف فاه بالسواك وغيره والاختيار في السواك أن يكون بعود من أراك ويجوز بسائر العيدان وبكل ما ينظف كالخرقة الخشنة والأسنان وغير ذلك ، ويستاك عرضا مبتدئاً بالجانب الأيمن من فمه وينوي به الإتيان بالسنة قال بعض العلماء يقول عند الإستياك اللهم بارك لي فيه يا أرحم الراحمين .
قال الماوردي من أصحاب الشافعي ويستحب أن يستاك في ظاهر الأسنان وباطنها ويمر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه وسقف حلقه إمراراً رفيقاً ، قالوا وينبغي أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبوسة ولا شديد الرطوبة قال يبسه لينه بالماء ولا بأس باستعمال سواك .
وأما إذا كان فمه نجسا بدم أو غيره فإنه يكره له قراءة القرآن ، ويستحب أن يقرأ القرآن وهو على طهارة فإن قرأ محدثاً جاز بإجماع المسلمين والأحاديث فيه كثيرة معروفة ، قال إمام الحرمين ولا يقال أرتكب مكروهاً بل هو تارك للأفضل ، فإن لم يجد الماء تيمم والمستحاضة في الزمن المحكوم بأنه وافق حكمها حكم المحدث وأما الجنب والحائض فإنه يحرم عليهما قراءة القرآن سواء كان آية أو أقل منها ويجوز لهما إجراء القرآن على قلبهما من غير تلفظ به ويجوز لهما النظر في المصحف وإمراره على القلب، وأجمع المسلمون على جواز التسبيح والتهليل والتحميد والتكبير والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأذكار للجنب والحائض قال أصحابنا وكذا إن قالا لإنسان خذ الكتاب بقوة وقصدا به غير القرآن فهو جائز وكذا ما أشبهه ويجوز لهما أن يقولا عند المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون إذا لم يقصدا القرآن قال أصحابنا الخراسانيون ويجوز أن يقولا عند ركوب الدابة سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وعند الدعاء ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار إذا لم يقصدا القرآن قال إمام الحرمين فإذا قال الجنب بسم الله والحمد لله فإن قصد القرآن عصى وإن قصد الذكر أو لم يقصد شيئا لم يأثم ويجوز لهما قراءة ما نسخت تلاوته كالشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة .
وإذا لم يجد الجنب ماء تيمم ويباح له القراءة والصلاة وغيرهما فإن أحدث حرمت عليه الصلاة ولم تحرم القراءة والجلوس في المسجد وغيرهما مما لا يحرم على المحدث كما لو اغتسل ثم أحدث وهذا مما يسأل عنه ويستغرب فيقال جنب يمنع من الصلاة ولا يمنع من قراءة القرآن والجلوس في المسجد من غير ضرورة كيف صورته فهذا صورته ثم الأقرب لا فرق مما ذكرناه بين تيمم الجنب في الحضر والسفر وذكر بعض أصحاب الشافعي أنه إذا تيمم في الحضر استباح الصلاة ولا يقرأ بعدها ولا يجلس في المسجد والصحيح جواز ذلك كما قدمناه ولو تيمم ثم صلى وقرأ ثم رأى ماء يلزمه استعماله فإنه يحرم عليه القراءة وجميع ما يحرم على الجنب حتى يغتسل ، ولو تيمم وصلى وقرأ ثم أراد التيمم لحدث أو لفريضة أخرى أو لغير ذلك فإنه لا يحرم عليه القراءة على المذهب الصحيح المختار وفيه وجه لبعض أصحاب الشافعي أنه لا يجوز والمعروف الأول أما إذا لم يجد الجنب ماء ولا تراباً فإنه لا يصلي لحرمة الوقت على حسب حاله ويحرم عليه القراءة خارج الصلاة ويحرم عليه أن يقرأ في الصلاة ما زاد على فاتحة الكتاب وهل يحرم عليه قراءة الفاتحة فيه وجهان الصحيح المختار أنه لا يحرم بل يجب فإن الصلاة لا تصح إلا بها وكلما جازت الصلاة لضرورة مع الجنابة يجوز القراءة والثاني لا يجوز بل يأتي بالأذكار التي يأتي بها العاجز الذي لا يحفظ شيئاً من القرآن لأن هذا عاجز شرعاً فصار كالعاجز حساً ، والصواب الأول .
ويستحب أن تكون القراءة في مكان نظيف مختار ولهذا استحب جماعة من العلماء القراءة في المسجد لكونه جامعاً للنظافة وشرف البقعة ومحصلاً لفضيلة أخرى وهي الاعتكاف فإنه ينبغي لكل جالس في المسجد الاعتكاف سواء أكثر في جلوسه أو أقل بل ينبغي أول دخوله المسجد أن ينوي الاعتكاف وهذا الأدب ينبغي أن يعتني به ويشاع ذكره ويعرفه الصغار والعوام فإنه مما يغفل عنه وأما القراءة في الحمام فقد اختلف السلف في كراهيتها فقال أصحابنا لا يكره ونقله الإمام المجمع على جلالته أبو بكر بن المنذر في الأشراف عن إبراهيم النخعي ومالك وهو قول عطاء وذهب إلى كراهته جماعات منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه رواه عنه ابن أبي داود وحكى ابن المنذر عن جماعة من التابعين منهم أبو وائل شقيق بن سلمة والشعبي والحسن البصري ومكحول وقبيصة بن ذؤيب ورويناه أيضا عن إبراهيم النخعي وحكاه أصحابنا عن أبي حنيفة رضي الله عنهم أجمعين قال الشعبي تكره القراءة في ثلاثة مواضع في الحمامات والحشوش وبيوت الرحى وهي تدور، وعن أبي ميسرة قال لا يذكر الله إلا في مكان طيب ، وأما القراءة في الطريق فالمختار أنها جائزة غير مكروهة إذا لم يلته صاحبها فإن التهى عنها كرهت كما كره النبي صلى الله عليه وسلم القراءة للناعس مخافة من الخلط .
ويستحب للقارئ في غير الصلاة أن يستقبل القبلة ويجلس متخشعاً بسكينة ووقار مطرقاً رأسه ويكون جلوسه وحده في تحسين أدبه وخضوعه كجلوسه بين يدي معلمه فهذا هو الأكمل ولو قرأ قائماً أو مضطجعاً أو في فراشه أو على غير ذلك من الأحوال جاز وله أجر ولكن دون الأول ، قال الله عز وجل ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) وثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكئ في حجري وأنا حائض ويقرأ القرآن رواه البخاري ومسلم ، وفي رواية يقرأ القرآن ورأسه في حجري .
فإن أراد الشروع في القراءة استعاذ فقال أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا قال الجمهور من العلماء وقال بعض العلماء يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) وتقدير الآية عند الجمهور إذا أردت القراءة فاستعذ ثم يراد التعوذ كما ذكرناه وكان جماعة من السلف يقولون أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ولا بأس بهذا ولكن الاختيار هو الأول ثم إن التعوذ مستحب وليس بواجب وهو مستحب لكل قارئ سواء كان في الصلاة أو في غيرها ، وينبغي أن يحافظ على قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في أول كل سورة سوى براءة فإن أكثر العلماء قالوا إنها آية حيث تكتب في المصحف وقد كتبت في أوائل السور سوى براءة فإذا قرأها كان متيقناً قراءة الختمة أو السورة فإذا أخل بالبسملة كان تاركاً لبعض القرآن عند الأكثرين فإذا كانت القراءة في وظيفة عليها جعل كالأسباع والأجراء التي عليها أوقاف وأرزاق كان الاعتناء بالبسملة أكثر لتيقن قراءة الختمة فإنه إذا تركها لم يستحق شيئا من الوقف عند من يقول البسملة آية من أول السورة وهذه دقيقة نفيسة يتأكد الاعتناء بها وإشاعتها .
فإذا شرع في القراءة فليكن شأنه الخشوع والتدبر عند القراءة ، والدلائل عليه أكثر من أن تحصر وأشهر وأظهر من أن تذكر فهو المقصود المطلوب وبه تنشرح الصدور وتستنير القلوب قال الله عز وجل ( أفلا يتدبرون القرآن ) وقال الله تعالى ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) والأحاديث فيه كثيرة وأقاويل السلف فيه ، وقد بات جماعة من السلف يتلون آية واحدة يتدبرونها ويرددونها إلى الصباح وقد صعق جماعة من السلف عند القراءة ومات جماعات حال القراءة ، وعن بهز بن حكيم أن زرارة بن أوفى التابعي الجليل رضي الله عنه أمهم في صلاة الفجر فقرأ حتى بلغ فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير خر ميتاً ، قال بهز وكنت فيمن حمله ، وقال السيد الجليل ذو المواهب والمعارف إبراهيم الخواص رضي الله تعالى عنه دواء القلب خمسة أشياء قراءة القرآن بالتدبر وخلاء البطن وقيام الليل والتضرع عند السحر ومجالسة الصالحين .
والبكاء عند قراءة القرآن هو صفة العارفين وشعار عباد الله الصالحين قال الله تعالى ( ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ) .
وينبغي أن يرتل قراءته وقد اتفق العلماء رضي الله عنهم على استحباب الترتيل قال الله تعالى ( ورتل القرآن ترتيلاً ) وثبت عن أم سلمة رضي الله عنها أنها نعتت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءة مفسرة حرفاً حرفاً - رواه أبو داود والنسائي والترمذي وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال لأن أقرأ سورة أرتلها أحب إلي من أن أقرأ القرآن كله ، وعن مجاهد أنه سئل عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران والآخر البقرة وحدها وزمنهما وركوعهما وسجودهما وجلوسهما واحد سواء فقال الذي قرأ البقرة وحدها أفضل ، وقد نهي عن الإفراط في الإسراع ويسمى الهذرمة الخ ، وعن عبدالله بن مسعود أن رجلاً قال له إني أقرأ المفصل في ركعة واحدة فقال عبدالله بن مسعود هكذا هكذا الشعر إن أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولكن إذا وقع القلب فرسخ فيه نفع رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم في إحدى رواياته .